مذكراتي مع كرة القدم 9

كرة القدم مفرغة من الهواء في قلبي.

فقد كان ثمة شاب اسمه عبد الباسط الساروت. وكان الحارس السابق لنادي الكرامَة ومنتخب سوريا للشباب قبل 2011. ثم حدث كل شيء مثل طعنة بطيئة في الظهر ونافذة في القلب حتى استشهد.

كانت المرة الأولى التي أسمع فيها بنادي إسمه الكرامة. وعلى الرغم من أن السوريين لا يثقون بالأسماء، فلا شارع الثورة ولا فرع فلسطين ولا شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية تعني لنا شيئاً سوى العكس. إلا أن الكرامة ارتبطت بإسمه.

لا يمكن أن أتذكر عبد الباسط الساروت ولا أبكي. وكلما رأيت تجمع الناس وهرجهم حول كرة قدم، تنتابني مشاعر قاسية جدا. يخرج من رأسي صوت الساروت المجروح وهو يهوّد ويهنهن ليهوّن علينا العبء ويستنهض فينا القوة والأمل.

الذكريات الحلوة صارت شفرة حادة، لذا أستعين بذاكرة الفيسبوك 2011 لأقرأ أول بوست نشرته بعد أن رأيت الساروت يحمي الفنانة فدوى سليمان في ساحات حمص. مزيج من الاندفاع والحنان والكبرياء، صورة للكرامة من أقاصي الحلم تسعى لتقف على الأرض من لحم ودم:

لو رآك هوميروس لفتح عينيه وأغلق عليك الأسطورة

لا عزاء بحضورك لأنصاف الآلهة

ولا عزاء لكل فرسان الأحلام

عبد الباسط ساروت يمثلني

وذاك البطل الذي يحتضنه

حمص يا مملكة الأجنحة

تحولنا كلنا إلى شعراء وحلقنا حتى ارتطمنا بسقف الواقع ووقعنا منهكين. وحده الساروت بقي شاعراً، ثائراً ومغنياً ومحارباً سورياً حتى اللحظة الأخيرة.

الجماهير التي أطلقت من أقفاصها هتفت عبد الباسط الله يحميك.

وفي عام 2014 كتبت:

” كنت أشاهد حماستك في المظاهرات والناس تحيط بك، أردد معهم عبد الباسط الله يحميك

كنت أتابع أغانيك بصوتك المخرش بالألم، الصادح بعُرَب الحنية والشجن وقول الله يحميك

كنت أتابع تصريحاتك وصمودك وخساراتك اليومية لرفاقك وإخوانك الشهداء وقول الله يحميك

ولما حملت السلاح لم أستطع إلا أن أبارك شجاعتك وأفهم دوافعك وأحيي استمرارك بينما غيرك يتقهقرون وينسحبون ويؤثرون الهرب والسلامة واللوذ ببيع الكلام.

وحين تراجعتَ واعتذرتَ كبرت كبرت حتى لم تعد الأرض تتسع لك.

وضع الساروت كل موهبة وقوة بدنية وذهنية منحها له الله في خدمة الثورة بعطاء لا محدود فأصبح فارس أحلام الفتيات السوريات البطل الشجاع المؤمن الصامد الذي يعرف كيف يحب”.

أصبحنا عاطفيين حد الاهتراء. دمرنا العجز، ولم يعد فينا حيل لنلفظ كلمة الهزيمة التي عرشت على قلوبنا.

شاركنا في وقفة العزاء بلندن صامتين، بينما كان صوتك يصدح من مسجل سيء بلا توقف. ويومها تجادلت مع صديقتي حولك، هي قالت عنك إرهابي. وأنا لم أرك سوى حارساً للكرامة. صعب جدا أن تحشر المنطق التسلسلي التاريخي والعاطفي التصاعدي في رأس مؤدلج فافترقنا إلى الأبد.

ويومها عدت فكتبت:

“شو الإيمان غير إنو تكمل للآخر، لآخر بحة بصوتك البدوي المجروح، لآخر طاقة من جسدك الفتي، لآخر نفس بفكرة نبيلة إسمها الثورة”.

كان لدينا بطل حر إلى هذا الحد .. وأنت أيها العالم من هو بطلك الكروي الذي استطاع أن يتحول في آخر مشواره رمزا لشيء آخر غير العلامات التجارية مثل بوكسرات كالفن كلاين أو الهواتف النقالة؟

كرة القدم مفرغة في قلبي السوري، منفسة، وذاكرتي تؤلمني.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s